منتديات ملك فوق عرش الشعر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المنتدى الرسمي للشاعر مصطفى شكري


    أنا والقهوة و محمود درويش

    الشاعر مصطفى شكري
    الشاعر مصطفى شكري
    ملك فوق عرش الشعر
    ملك فوق عرش الشعر

    عدد المساهمات : 72
    التقييم : 0
    تاريخ التسجيل : 12/05/2011
    02032012

    أنا والقهوة و محمود درويش Empty أنا والقهوة و محمود درويش

    مُساهمة من طرف الشاعر مصطفى شكري



    أنا والقهوة و محمود درويش

    أنا والقهوة و محمود درويش 2coffee-020307a




    قهوة الصباح:

    صباحكم قهوة أيها الناهضون من أسِرّة القصيدة، تفركون عيون الغياب!

    .فهمت..
    أنتم لا تحبون القهوة!!!
    إذن لا مكان لي بين رائحة العشب المتصاعدة من ماء بئر أحلامكم..
    فأنا أحب القهوة..
    وقد اخترت قهوتي لهذا الصباح، اخترت ماء بئرها، ورائحة عشبها..

    بعد إذنكم،
    لا مكان لي هنا..
    سأرحل إلى تل السنديان، لي موعد هناك مع صديق قديم، يعشق القهوة مثلي!
    سنجلس معا أنا وهو، بجانب نهر الأبدية لنحتسي فنجانين من القهوة، ونتحدث قليلا عن الحب والشعر والغرباء!

    نعم، سأجلس أنا ومحمود درويش ، لنكتب ذاكرة النسيان، ونُقَطِّر من إبريق قهوتها ليل الأبجدية في آنية النهار..

    إذن، حسنا..
    فليتكلم درويش..
    أعلم أنكم قد ضجرتم من منامي على أريكة أيامكم،
    أعلم أنكم ضجرتم من شِعْري ومن كلامي..
    فليتكلم هو..
    أما أنا فسأجلس صامتا، وسأتحدث إليه بصمت..

    ها هو يطلع..
    يطلع علي من الغياب،
    أرمهقه بنظرة شاعر،
    يرمقني بنظرة المتنبي..
    يجلس..
    فأجلس..
    أسكب ظلي في فنجانه،
    يسكب ظله في فنجاني،
    نجلس كشبحين،
    ونترك ظلين شريدين
    قرب البنفسج يتسامران!
    تمر دقيقتان..
    يَلُفُّنا غيم الإستعارة،
    .. يمطرنا بوابل من الصمت
    لكنه يقطع السكون عن المجاز
    فأفهم، من دون أدنى إشارة،
    نظرته العطشى إلى السلام!
    أسكب له قهوة الحجاز،
    يرشفها رشفة.. فرشفة..
    ثم يشعل سيجائر الكلام:

    "أريد رائحة القهوة، لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة، رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدميَ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها، لنمضي معاً أنا وهذا النهار إلى الشارع بحثا عن مكان آخر."

    ـ ولكن..
    "كيف يذيع رائحة القهوة من خلاياه، وقذائف البحر تنقض على واجة المطبخ المطل على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم؟
    ( ... همستُ في السِّر) .

    تابع قائلا:
    "أريد رائحة القهوة.. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة.
    بهذا الهوس حددتُ مهمتي وهدفي. توثبَت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبَت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة"
    "والقهوة، لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار."
    "والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق. لأن حامل الطبق هو حامل الكلام.، القهوة الأولى يفسدها الكلام لأنها عذراء الصباح الصامت.
    الفجر.. أعني فجري نقيض الكلام. ورائحة القهوة تتشرب الأصوات، ولو كانت تحية رقيقة مثل "صباح الخير"، وتفسد..
    لذا، فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي، الباكر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه، وحدك، مع ماء تختاره بكسل وعزلة، في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه على مهل وعلى مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان، أصفر مائل إلى البني، ثم تضعه على نار خفيفة... آه لو كانت نار الحطب.
    إبتعدْ عن النار الخفيفة، لتطل على شارع ينهص للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول عن الشجرة وبالسيرعلى قدمين، شارع محمول على عربات الخضار والفواكه وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح وتحويل السلعة إلى نعت للسعر، واستنشقْ هواء قادما من برودة الليل، ثم عُدْ إلى النار الخفيفة ـ آه لو كانت نار الحطب ـ وراقِبْ بمودة وتؤدة علاقة العنصرين:
    النار التي تتلون بالأخضر والأزرق، والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلى جلد ناعم، ثم تكبر.. تكبر على مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر، تنتفخ وتنكسر عطشى لإلتهام ملعقتين من السكر الخشن الذي ما إن يداخلها حتى تهدأ بعد فحيح شحيح، لتعود بعد هنيهة إلى صراخ الدوائر المشرئبة إلى مادة أخرى هي البن (القهوة بالعامية) الصارخ، ديكا من الرائحة والذكورة الشرقية...
    أبعدْ الإناء عن النار الخفيفة لتجري حوار اليد الطاهرة من رائحة التبغ والحبر مع أولى إبداعاتها مع إبداع أول سيحدد لك منذ هذه الهنيهة، مذاق نهارك وقوس حظك. سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل أم تتجنب العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم. فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولى وعن إيقاعاتها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق، وعما يكتشف من غموض نفسك سيكون هوية يومك الجديد...
    لأن القهوة، فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد، واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها / وهكذا فالقهوة هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح، والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار.

    "كيف أصل إلى رائحة القهوة، كيف أموت يابساً بلا رائحة القهوة، لا أريد.. لا أريد..
    فأين إرادتي؟
    وقفتْ على الرصيف الثاني من الصوت الجماعي، أما الآن فلا أريد أكثر من رائحة القهوة."

    "في وسعهم أن يسلطوا البحر والجو علي، لكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا مني رائحة القهوة، سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن، لأتميز عن خروف على الأقل، لأعيش يوماً آخر، أو أموت محاطاً برائحة القهوة."

    ..تُبعِد الإناء عن النار الخفيفة لتجري اليد أولى إبداعاتها، ولا تكترث بالصواريخ والقذائف والطائرات.

    تلك إرادتي: سأذيع رائحة القهوة لأمتلك فجري.

    لا تنظر إلى الجبل الذي يبصق كتلة نارية في إتجاه يدك.
    ولكنك لا تستطيع أن تنسى أنهم يرقصون هناك، يرقصون من النشوة."

    .. " هناك ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى ببطء على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة، بين الملعقة والأخرى أبعِد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار، بعد ذلك "لقِّم" القهوة أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل.
    إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق لا تدعها تغرق، أطفِئ النار ولا تكترث بالصواريخ.
    خُذ القهوة إلى الممر الضيق بحنان وافتنان في فنجان أبيض، فالفناجين الداكنة اللون تفسد حرية القهوة، راقِب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة، أشعِل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان، السيجارة ذات المذاق الكوني التي لايعادلها مذاق آخر غير مذاق السيجارة التي تتبع عملية الحب، بينما المرأة تدخن آخر العرق وخفوت الصوت.
    ها أنا ذا أولد، امتلأت عروقي بمخدرها المنبه، بعدما التقت بينبوع حياتها، الكافيين والنيكوتين وطقس لقائهما المخلوق من يدي."

    "أتساءل: كيف تكتب يد لا تبدع القهوة؟
    كم قال لي أطباء القلب وهم يدخنون، لا تدخن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب.."

    "أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي، أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها، لا قهوة تشبه الأخرى، ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارق. ليس هنالك مذاق اسمه القهوة، فالقهوة ليست مفهموما وليست مادة واحدة وليست مطلقا، لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته، ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة وذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مرتبا، وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب وذلك يعني أن صاحب البيت بخيل، وثمة قهوة لها رائحة العطر ذلك يعني أن السيدة شديدة الإهتمام بمظاهرالأشياء، وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم وذلك يعني أن صاحبها يساري طفولي، وثمة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن، ذلك يعني أن صاحبها يميني متطرف. وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة، لا قهوة تشبه الأخرى، لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى، وأنا أعرف القهوة من بعيد: تسير في خط مستقيم في البداية ثم تتعرج وتتأود وتلتف على سفوح ومنحدرات، تتشبث بسنديانة أو بلوطة، وتتغلب لتهبط الوادي وتلتف إلى ما وراء وتتغتت حنيناً إلى صعود الجبل وتصعد حين تتشتت في خيوط الناي الراحل إلى بيتها الأول .
    رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول، لأنها تنحدر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود.
    القهوة مكان. القهوة مسام تُسربُ الداخل إلى الخارج، وانفصال يُوَحِّد ما لا يتوحد إلا فيها هي.
    رائحة القهوة هي ضد الفطام. ثدي يُرضِع الرجال بعيداً. صباح مولود في مذاق مر، حليب الرجولة والقهوة جغرافيا."

    "سألتني صديقة بعد خروجي من السجن الأول: هل إستمتعت؟
    قلت: لا، لأنهم لا يقدمون القهوة.
    قالت: هذا شيء فظيع، وأضافت: ولكنني لا أشرب القهوة.
    قلت: لا أعرف سيدات كثيرات مهووسات بصباح القهوة. الرجل هو الذي يفتتح نهاره بالقهوة، أما المرأة فإنها تفضل المكياج!!!
    ليس ذلك ما آلمني لقد تمكن أحد زملائي من السجناء من إحضار فنجان قهوة لي، ذات صباح، تلقَّفتُه بشبق ومنحت نفسي وقتاً للتأمل، مما دفع زميلا ًآخر إلى تصويب نظرة إستعطاف نحو الفنجان. تجاهلْتُها لأتوحَّد مع ملكيتي، تجاهلْتُها وتلذَّذت برشفة القهوة بسيادية أيقظت فيَّ الإحساس بالإثم فيما بعد. كان ذلك قبل عشرين عاما، وما زالت تلك النظرة المتوسلة تلاحقني إلى الآن، داعية إياي لإعادة النظر المستمرة في نفسي وإلى تهذيب سلوكي.
    لأن العطاء وتقاسم الأشياء في السجن هو معيار صدق العطاء، لم أتخلص من عقدة الذنب بما أغدقتُ من معيار صدق العطاء، لم أتخلص من عقدة الذنب بما أغدقت عليه من أنصاف السجائر في محاولة لرشوة توازني النفسي.
    ما أشدُّ أنانيتي!! لقد حرمت زميلا في السجن من نصف فنجان من القهوة، مما دفع الأقدار إلى معاقبتي بعد أسبوع حيث جاءت أمي لزيارتي ومعها إبريق من القهوة دلقه الحارس على العشب."

    "والقهوة لا تُشرَب على عجل، القهوة أخت الوقت، تُحتسى على مهل.. على مهل.
    القهوة.. صوت المذاق.
    .. صوت للرائحة.
    القهوة تأمل وتغلغل في النفس وفي الذكريات.
    والقهوة عادة تلازمها بعد السيجارة، عادة أخرى، هي الجريدة.
    أين الجريدة؟ الساعة السادسة صباحاً. وأنا في عين الجحيم."

    "أمّي البعيدة تفتح باب غرفتي وتقدِّم لي القهوة على طبق من قلبها.
    أداعبها: لماذا أذنتِ لي أن أضع ركبتي على السكين وأضغط لتبقى معي هذه الندبة؟
    ولماذا أذنتِ لي أن أمتطي الحصان ما دام سرجه سيسقط ليسقطني تحته ولتبقى على جبيني هذه الندبة؟"

    وفجأة قام من مكانه، متخليا عن جميع الأوسمة التي أثقلنا صدره بها..
    اقترب من حافة النهر، تأمل خرير المياه للحظات، ثم استدار نحوي، ورماني كالعادة بابتسامة من كمنجاته الباكية، التي تنفض غبار اليأس عن أندلس الزمان، وقال:
    ـ لا تنسى قوت الحمام وأنت تعد قهوتك!
    لا تنسى القهوة،
    ورائحة القهوة..
    فرائحة القهوة تعيدني إليك، وتعيدك إلي..

    أدركت عندها أنه يهم بالرحيل، بادلته الإبتسامة ذاتها، وقلت:
    ـ عم مساءً.. لن أنساك،
    ولن أنسى رائحة القهوة،
    أنت والقهوة ندبتان ستبقيان على جبيني!

    ***

    " أحن إلى خبز أمي،
    وقهوة أمي.. "

    كانت هذه آخر كلمة همس لي بها محمود، ثم غطس في نهر السنديان.. وغاب!

    قهوة المساء:

    مساؤكم قهوة، أيها السائرون في منامكم، من شبق الإنسياب!

    كنت أحلم.. فاعذروني..
    سأغطس في السنديان وراء حارسه، وأترك لكم قمح الحروف، لتتركوه لغارسه!..
    ....
    لا تسألوني، من هو؟!
    لا تسألوني..
    فقط.. انتظروا البشرى،
    سيطلع عليكم، يوما ما، من ذاكرة نسيان أخرى..



    مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

    لا يوجد حالياً أي تعليق


      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين 09 سبتمبر 2024, 3:30 am